السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
إن ظاهرة تراجع الروحانيات واحدةٌ من الظواهر الآخذة في الانتشار والتفاقم، وأسباب ذلك كثيرة:
منها ما يعود إلى عدم تكافؤ المناهج التربوية وضخامة التحديات الشيطانية، ومنها ما يتصل بالبيئة والعشرة نفسها، ومنها ما يعود إلى غلبة الهموم الدنيونية على الهموم الاخروية، والسياسية منها على التربوية، ومنها ما يتصل بحالة الاستهلاك الإيماني المتزايد مقابل تراجع الإنتاج الإيماني الملحوظ.
وحول هذه الظاهرة المرضيَّة، كنت وضعت كتابًا عنوانه: "الإنسان بين هداية الرحمن وغواية الشيطان "، عرضت فيه لمعادلة الإنتاج والاستهلاك الإيماني غير المتكافئة، أرجو أن يكون موجودًا عندكم.. فإن تعذر يمكن إرساله إليك هدية حبٍّ في الله.
* عصر الاستهلاك الإيماني:
ابتداءً لابدَّ من الإشارة إلى أن هذا العصر يشهد استهلاكًا إيمانيًّا مريعًا من شأنه أن يدفع بالكثيرمن المسلمين وحتى الإسلاميين والدعاة إلى هاوية الإفلاس الإيماني، يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًّا)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء من بعدهم قوم: تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم) رواه البخاري.. فنسأل الله تعالى الهدى والعصمة والثبات.
إن كل ما حولنا يصرفنا عن الله ويغرينا بالدنيا وشهواتها.. (زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) رواه مسلم.
وأكتفي بعرض أنموذجٍ بسيطٍ حول عمليَّة الاستهلاك الإيماني في زحمةٍ من المواقع الاستهلاكية التي لا تبقي ولا تذر.
أمامي نشرة أسبوعية مجانية تقع في نحوٍ من أربعين صفحة، كل صفحةٍ فيها تمتلئ بعشرات الدعوات والدعايات التي تستهلك الإيمان والأخلاق والوقت والمال، ولا تترك للإنسان فرصةً للتنفس الإيماني السليم.
فهذه دعوةٌ إلى تنحيف الأجساد، وتأمين الأصدقاء، واستيراد الخادمات والحاضنات تتناسب مع جميع الأذواق والميزانيات، وعرض لمقاعد، وسيارات، وغيرها الكثير..
هذه مفردةٌ صغيرةٌ ومحدودةٌ من وسائل الاستهلاك الإيماني، يضاف إليها عالم الإنترنت، وعالم الفضائيات، وكل ما تمخَّض عنه العقل البشري ووضع في خدمة الشيطان.. فماذا يتبقى بعد ذلك؟
هل يتبقى وقت؟ هل يتبقى جهد؟ هل يتبقى عقل؟ هل يتبقى مال؟ هل يتبقى دين؟ هل تتبقى اخلاق؟ أما عن النتيجة، فالنتيجة: ضياع العمر وسوء المصير.
* كيف نواجه هذا الكم من قوارض الإيمان؟
إنه لابد من مشاريع إنتاجيَّة للإيمان تغالب الاستهلاك وتغلبه؛ إن ذلك يحتاج إلى قوة إرادة وعزيمة وصبر ومجاهدة نفس ومغالبة هوى لا تفتر ولا تتوقف.. إنه يحتاج إلى إنماءٍ إيمانيٍّ يماثل حجم الاستهلاك الإيمانيّ على الأقل.
إن صوم رمضان، وأداء مناسك العمرة والحج، وإقامة الصلاة فرائض ونوافل، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقراءة كتاب الله، وذكر الموت، والنهوض بواجب الدعوة إلى الله، والإسهام قدر المستطاع بأحد جوانب الجهاد في سبيل الله.. هذه وغيرها محطاتٌ للإنتاج الإيماني، ومعارج رقيٍّ وارتقاءٍ إلى الله عز وجل نحن مطالبون بالتعرض لها، إنفاذًا لأمر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، و تعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده،) رواه الطبراني وقال الألباني حديث حسن، والتعرُّض لها هنا يعني الإقبال عليها والاستفادة منها.
* التنمية الإيمانيَّة:
إن من ركائز التنمية في الإسلام ما يتصل بالإيمان، فالإيمان يجب أن ينمو باضطراد، وكل تعطُّل في عملية التنمية الإيمانية ينعكس سلبًا في حياة الإنسان وسلوكه ومجمل تصرفاته، كما ينعكس بالتالي على المجتمع كلّه.
شواهد قرآنية:
يقول الله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيكم زادته هـذه إيمانًا فأَمَّا الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون).
ويقول سبحانه: (إنَّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربِّهم يتوكلون).
ويقول عز من قائل: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابًا وخيرٌ مردًّا).
ويقول جل جلاله: (إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّدًا * ويقولون سبحان ربِّنا إن كان وعد ربِّنا لمفعولاً * ويخرُّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا).
وقال سبحانه: (ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا).
وقال عزَّ وجلَّ: (الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
شواهد نبويَّة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من جرعةٍ أحبُّ إلى الله من جرعة غيظٍ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الطبراني وصححه الألباني.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إيَّاكم ومحقِّرات الذنوب، فإنَّهنَّ لا يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) رواه أحمد وصححه الألباني.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) رواه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عز وجل في حديث قدسي: (إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) رواه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجلَّ في حديث قدسي: (من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وصدق الشاعر إذ يقول:
رأيت الذنوب تميت القلوب ....... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ....... وخير لنفسـك عصيانها
* التنمية العبادية:
ويتناول الإسلام الجانب العبادي، فيدعو إلى العناية بها "نوعًا" والإكثار منها "كمًا"، وبذلك تبقى العبادة في تجدُّدٍ وتألق، وفي تنامٍ دائمٍ ومستمر.
من الشواهد القرآنية:
قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون).
وقوله تعالى: (إنَّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين).
وقوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربِّهم يتوكَّلون).
وقوله تعالى: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
ومن الشواهد النبوية:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي. وإني لأستغفر الله، في اليوم، مائة مرة) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) رواه البخاري.
فالبدار البدار -أخي الحبيب- لتنمية ما حسُن، وإصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوج.. ولتكن معركتنا مع نفوسنا الأمارة بالسوء صارمة دائمة، كما مع شياطيننا التي لا تفتأ تنصب لنا شراك الغواية، وتزيِّن لنا ما قبحه الشرع، وما حذر منه ونهى عنه رب العزة والجلال، حيث قال: (إنَّ الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب الجحيم).
وهلمَّ معي أيها الأخ الكريم، نتفحَّص سلوك الصالحين، ونحذوا حذو آبائنا الأولين، من الغرِّ الميامين الذين كانوا في منازلةٍ دائمةٍ مع نفوسهم، حيث يطالعنا في هذا المقام، ما نظمه الإمام البوصيري في قصيدته "البردة الشريفة"، حيث يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على ....... حبِّ الرضاع، وإن تفطمْه ينفطم
فاصرف هواها وحـاذر أن تولـيه ....... إن الهوى ما تولى يُصمِ أو يَصِم
واستفرغ الدمع من عينٍ قد امتلأت ....... من المحارم والزم حِمية الــندم
وخالف النفس والشيطان واعصِهما ....... وإن هـما محضاك النصح فاتهم
جعلني الله وإيَّاك من الذين يستمعون القول والموعظة والتذكرة، فيتبعون أحسنها، ومن الذين رضي عنهم ورضوا عنه، والله يتولى الصالحين، والحمد لله رب العالمين.